معرفة

«معركة خلدة»: عن الهزائم التي تلد انتصارات

قصة معركة عربية تاريخية، تؤكد أن معارك الشعوب المُستَنفَرة ضد المحتل ينبثق فيها النور من العتمة، ويخرج الحي من الميت، ويُستولَدُ النصر من رحم الهزيمة.

future معركة خلدة

كان صيف عام 1982 لاهب الحرارة عسكرياً وسياسياً في لبنان خصوصاً، والشرق الأوسط عموماً، فقد استغل الكيان الصهيوني محاولة اغتيال فاشلة لسفيرها في لندن شلومو أرجوف، نفذها تنظيم أبو نضال المنشق عن حركة فتح، والمثير للجدل، وأعلنت حرباً مفتوحة ضد لبنان هدفُها تدمير قوات منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تتخذ من لبنان معقلاً ومنطلقاً لها بعد طردها من الأردن إثر مذابح أيلول الأسود 1970 وجرش عام 1971.

ابتداء من يوم 4 يونيو 1982، شن العدو غارات جوية كاسحة ضد مراكز الفصائل الفلسطينية لا سيما في بيروت الغربية والجنوب اللبناني، وكذلك المخيمات الفلسطينية، ومناطق أخرى موالية للفلسطينيين أو متحالفة معهم، وفي السادس من يونيو، اقتحمت آلاف الدبابات وناقلات الجند الإسرائيلية مناطق سيطرة القوات الدولية على الحدود اللبنانية، وتوغلت بشكل جارف في الجنوب اللبناني، واندفعت شمالاً مكتفية بتطويق وحصار المعاقل القوية للمقاومة مثل مدينتي صور وصيدا، وقلعة الشقيف. ويبدو أن المقاومة الفلسطينية وحلفاءها قد بوغتوا بحجم الهجوم الإسرائيلي، فانهارت خطوطهم الدفاعية سريعاً لا سيما في الجنوب اللبناني.

خلال أقل من ثلاثة أيام، كانت قوات العدو قد أصبحت على مشارف بيروت، وفي يوم التاسع من يونيو، أخرجت القوات السورية بشكل مذل من المعركة، بتدمير معظم بطاريات دفاعها الجوي «سام-6» في البقاع اللبناني، وإيقاع هزيمة مذلة بالقوات الجوية السورية في سماء البقاع، حيث أُسقِطت عشرات الطائرات السورية، مقابل اثنتين فقط للعدو، وفي اليوم التالي 10 يونيو 1982، خرجت سوريا من المعركة بشكل شبه كامل بعد اتفاق أحادي لوقف إطلاق النار بينها وبين العدو بوساطة أمريكية، وانكشف ظهر المقاومة الفلسطينية وحلفائها في الحركة الوطنية اللبنانية أمام الاجتياح الإسرائيلي الكاسح.

كان الصادم أن عديداً من الدول العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية كان لديها معلومات أكيدة قبل اندلاع الاجتياح للإسرائيلي بشهور، أن الاستعدادات له توضع عليها اللمسات الأخيرة داخل الكيان، لكن لم تتخذ الإجراءات السياسية والعسكرية الكافية للدفاع عن لبنان والبندقية الفلسطينية ضد مثل هذا الهجوم الواسع، كما يذكر هيثم الكيلاني في مقدمة الجزء المخصص لحرب 1982م، في كتابه «الاستراتيجيات العسكرية للحروب العربية 1948 – 1988»

أوعز الكيلاني هذا القصور والعجز العربي لحالة التردي والتشرذم الكارثية في السنوات القليلة السابقة للحرب، بعد خروج مصر من المعادلات العربية باتفاقية السلام مع الكيان المحتل عام 1979، وفشل مشاريع الوحدة بين العراق وسوريا، واندلاع الحرب العراقية- الإيرانية المدمرة عام 1980، وكذلك لخطأ رهانات عديد من قادة المقاومة الفلسطينية واللبنانية على أن العدو لن يجتاح لبنان بشكل واسع وصولاً إلى بيروت، إنما سيكتفي بعملية محدودة وصولاً لنهر الليطاني، تكراراً لاجتياح عام 1978. 

لماذا خَلدَة؟

موقع منطقة خلدة في المقتَرَب الجنوبي من العاصمة اللبنانية بيروت

في التاسع من يونيو ومع حصار العدو لصيدا ثم الاندفاع شمالاً، سقطت منطقة الدامور الساحلية (أقل من 20كم جنوب بيروت) دون أدنى مقاومة، وأصبح الطريق مفتوحاً أمام العدو للاندفاع شمالاً صوب العاصمة بيروت وضاحيتها الجنوبية، وساحل بيروت الغربية، حيث معاقل منظمة التحرير الفلسطينية وحلفاؤها في الأوزاعي ومربع الفاكهاني. لكن كان لا بد لقوات العدو أن تمر عبر منطقة خلدة لتصل إلى بيروت.

تمتاز منطقة خلدة، التي تعرف أيضاً بمثلث خلدة، بأهمية استراتيجية، فهي المدخل الجنوبي من طريق الساحل لمدينة بيروت، والسيطرة عليها تفتح الباب أمام السيطرة على مطار بيروت الدولي، وكذلك الضاحية الجنوبية لبيروت، وصولاً إلى عمق بيروت الغربية، التي كانت آنذاك معقل قوات منظمة التحرير الفلسطينية وحلفائها اليساريين والفلسطينيين في الحركة الوطنية اللبنانية. كانت خلدة عقدة مواصلات بالغة الحيوية، تربط الساحل اللبناني، بمنطقة جبل لبنان المهمة، بالعاصمة بيروت.

تمركز في خلدة العشرات من المقاومين من الفلسطينيين واللبنانيين وبعض سواهم من العرب، وكانت كل الفصائل والانتماءات ممثلة في خلدة وجوارها، فكان هناك فدائيون فلسطينيون من فتح ومن الجبهة الشعبية ومن جيش التحرير الفلسطيني، ومقاتلون شيعة من حركة أمل، وبعض الشباب المتدينين الشيعة غير المنتسبين لأمل (سيكون هؤلاء النواة الأولى لحزب الله)، ومقاتلون لبنانيون من اليسار والشيوعيين والحزب القومي السوري الاجتماعي، وبعض من جنود مشاة الجيش السوري، كذلك قامت مدفعية الجيش السوري بتنفيذ إسناد ناري للمدافعين عن خلدة انطلاقاً من مواقعها المُشرفة في منطقة عرمون شرقاً. فتحقق لأول مرة منذ زمن معنى اسم (القوات المشتركة) الذي كان يطلق على منظمة التحرير وحلفائها من الحركة الوطنية اللبنانية.

في الفصل الخامس من كتابه «بيروت مدينتي»، يروي الكاتب والمناضل الفلسطيني بسام أبو شريف، الذي كان عضواً في المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إبان الاجتياح، ورئيساً لتحرير مجلة «الهدف» الثورية، مشهداً معبراً حضره كشاهد عيان، عندما كان أحد قيادات المقاومة الفلسطينية ويتفقد المقاومين في منطقة خلدة. فقد شاهد في إحدى الدشم المحصنة على الطريق الساحلي في خلدة، قرابة الـ20 مناضلاً مسلحين بالقذائف المضادة للدروع، وبالرشاشات، من بينهم ثمانية متطوعين من اليمن، وعدد من الطلبة الفلسطينيين الذين كان يدرسون في الجامعات الأمريكية، ثم استدعتهم الجبهة الشعبية على عجل للمشاركة في الدفاع عن لبنان.

المعركة

يسجل المؤرخ اللبناني فواز طرابلسي في يومياته التي سجلها أثناء الحرب (كان عمره 41 عاماً حينها) والتي أطلق عليها اسماً معبراً للغاية «عن أمل لا يرجى شفاؤُه» أنه في مساء التاسع من يونيو 1982، حاول العدو القيام بإنزال بحري للسيطرة على منطقة خلدة، استخدم فيه عدداً من الدبابات البرمائية، لكن تعرضت قوات العدو لاستهداف مكثف بقذائف الـ«آربي جي» والمدفعية وصواريخ الـ«كاتيوشا»، ودُمرت ثماني آليات مدرعة إسرائيلية، ونجح المقاومون في أسر دبابة إسرائيلية فطيفَ بها في شوارع بيروت الغربية لساعات طويلة في أجواء احتفالية لرفع الروح المعنوية التي تردت كثيراً من الاندفاع الإسرائيلي الجارف. وينقل طرابلسي عن أحد كبار السن ممن شاهدوا الآلية المأسورة أنه قال في حماسة:

«الآن أستطيع أن أموت بسلام، شاهدتُ آلية إسرائيلية في شوارع بيروت! هذا يكفيني، ما عدت أخجل أنني عربي».

الدبابة التي سيطرت عليها المقاومة

يروى ملحم الحجيري أحد من شاركوا في معركة خلدة تحت راية الاتحاد الاشتراكي بعض مشاهد الاشتباك مع قوات العدو في خلدة، حيث اندفع أحد الشباب من أحد المباني المطلة على الطريق واعتلى دبابة، وألقى داخلها قنبلة يدوية، ومساء التاسع من يونيو، تقدمت قوات العدو المدرعة تحت ستار من القصف الجوي لانتشال جثث قتلاها وإخلاء بقايا الدبابات المدمرة صباحاً، فتصدى لها مقاتلو الاتحاد الاشتراكي وفتح والصاعقة بقذائف الـ«آر بي جي»، وأجبروها على الانسحاب. ويروي الحجيري أيضاً أنه نسق مع القيادات الميدانية في حركة أمل المتمركزة في مدينة الزهراء القريبة لتنفيذ كمائن مشتركة، واستمر الجانبان في القتال بشكل مشترك لعدة أيام.

ابتداء من يوم 10 يونيو بدأ العدو في إحداث اختراقات بعدما طبق سياسة الأرض المحروقة، حيث قصف منطقة خلدة بوحشية شديدة بحراً وجواً، واستقدم قوات كبيرة من لواء النخبة الجولاني، وعشرات الدبابات، ونجح في الاستيلاء على بعض التلال المشرفة على خلدة. لكن استمرت عمليات المقاومة من الفصائل الفلسطينية في خلدة حتى يوم 13 يونيو، عندما صدرت أوامر من قيادة القوات المشتركة الفلسطينية واللبنانية بالانسحاب من خلدة لتعزيز خطوط الدفاع المباشرة جنوبي بيروت.

ورغم نجاح العدو في احتلال خلدة في نهاية المطاف، فإن الصمود الأسطوري للمقاومين من مختلف الانتماءات لعدة أيام كسر حدة الاندفاعة العنيفة للاجتياح الإسرائيلي، ورفع الروح المعنوية للقوات المشتركة الفلسطينية اللبنانية، التي صمدت لشهرين متاليين في بيروت، عجز العدو خلالها رغم القصف الوحشي الذي أدى لاستشهاد قرابة 10 آلاف من الفلسطينيين واللبنانيين، عن القضاء على فصائل المقاومة، وعن قتل أو اعتقال قيادتها وعلى رأسهم ياسر عرفات، أو فرض استسلام مذل على المقاتلين الفلسطينيين المحاصَرين في بيروت، الذين خرجوا أواخر أغسطس بسلاحهم وأزيائهم العسكريين في اتفاق شهير بوساطة أمريكية.

اعترف العدو رسمياً بمصرع 10 من جنوده وضباطه في خلدة، وتدمير 15 دبابة وناقلة جند، وكان من أبرز خسائره، مصرع الجنرال يكوتئيل آدم نائب رئيس الأركان، الذي أصابته قذيفة هاون في مقر قيادة متقدم شمال الدامور، كان يتابع منه العمليات العسكرية في خلدة وبيروت.

كان من النتائج الميدانية المهمة للخسائر الكبيرة التي تعرض لها العدو في خلدة، أنه تجنب احتلال الضاحية الجنوبية لبيروت، والتف حول بيروت من جهة الشرق بالتنسيق مع حلفائه في ميليشيا القوات اللبنانية المسيحية المسيطرين على بيروت الشرقية، ومنطقة بعبدا جنوب شرقي بيروت، التي تضم القصر الرئاسي.

وكل يدعي وصلا بـ«خلدة» و«خلدة» تقر لهما بذاكا!

«أدت وحدات الصواريخ والقواذف م/ د دورا لم تشهده المعارك السابقة من قبل، بل يمكن القول إن نسبة الصواريخ والقواذف م / د إلى عدد المقاتلين كانت أكبر نسبة شهدتها الصراعات المسلحة منذ ظهور الأسلحة حتى عام 1982».

  • هيثم الكيلاني، كتاب «الاستراتيجيات العسكرية للحروب العربية 1948 – 1988» متحدثاً عن كثافة استخدام المقاومة اللبنانية والفلسطينية للأسلحة المضادة للدبابات في معارك الدفاع عن بيروت.

نظراً لثقل رمزية معركة خلدة، وأهميتها في الوجدان اللبناني والفلسطيني، فقد تنازع على ادعاء السبق فيها كافة الأطراف التي شارك مقاتلوها في التصدي للقوات الإسرائيلية، وبدأ هذا في أتون المعركة إذ كاد المقاتلون من مختلف الفصائل يتقاتلون على الآلية المدرعة التي أُسِرَت في معركة خلدة، وأي فصيل أحق بشرف أن تُترَك أمام مقره.

تحاول حركة أمل اللبنانية دائماً أن تنسب الدور الرئيس في معركة خلدة لمقاتليها، الذين لا شك لعبوا دوراً مهماً فيها، لكن لم يكونوا وحدهم.

في المقابل، تؤكد الفصائل الفلسطينية أنها كانت صاحبة قصب السبق في تلك المعركة، وتستدل بعديد من الوقائع التفصيلية، وكذلك أنه كان من أبرز القادة الذين استشهدوا في خلدة العقيد عبدالله صيام القائد في تنظيم جيش التحرير الفلسطيني، واللاجئ الفلسطيني الذي ينتسب إلى قرية الجورة قرب عسقلان المحتلة، والذي عاش طفولته في غزة، ودرس الهندسة في القاهرة، ثم التحق بركب النضال الفلسطيني حتى استشهاده بقصف إسرائيلي استهدفه في موقع مشرف كان يوجه منه القصف المدفعي ضد قوات العدو.

كذلك يركز أنصار حزب الله على دور الشباب من مؤسسي الحزب في معركة خلدة، حيث ارتقى عديد من الشهداء من الشباب الذين جمعوا أنفسهم من مساجد مدينة الزهراء القريبة وضاحية بيروت الجنوبية واندفعوا للجهاد في خلدة استجابة لفتوى الخميني بالقتال حتى آخر رمق، وكيف واجهوا التفافاً إسرائيلياً خطيراً خلف الخطوط في خلدة قرب المطار في معركة استشهادية استمرت تسع ساعات بالتعاون من قوة من الجيش السوري، ونجحوا في تدمير عدد من الدبابات وناقلات الجند، قبل أن تنفذ قذائف الـ«آر بي جي» التي كانت بحوزتهم ويضطرون للانسحاب. وقد أصيب في معركة خلدة القائد التاريخي في حزب الله مصطفى بدر الدين (الذي اغتيل بعد عقود في سوريا عام 2015).

خاتمة: يولج الهزيمة في النصر

تؤكد معركة خلدة أن معارك الشعوب المُستَنفَرة ضد المحتلين ينبثق فيها النور من العتمة، ويخرج الميت من الحي، ويُستولَدُ النصر من رحم الهزيمة. فالصمود الأسطوري في خلدة رغم الهزيمة التكتيكية بنجاح العدو في احتلالها بعدما طبق عليها سياسة الأرض المحروقة، ثم احتلال بيروت مؤقتاً، هذا الصمود كان من أهم ما أذكى المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي، التي دفعته للانكفاء جنوباً عام 1985 صوب الشريط الحدودي اللبناني، وألهم إصداراً أخطر من تلك المقاومة ضد الاحتلال، هو المقاومة الإسلامية (الجناح العسكري لحزب الله)، التي تشير كافة أدبياتها إلى كون معركة خلدة، ومشاركة العشرات من شباب المقاتلين الإسلاميين فيها، نقطة الانطلاق الحقيقية على الأرض لها.

وهكذا بعد 18 عاماً، انبجس من حجر خلدة الصلد، أول انتصار عربي حقيقي على العدو بانسحابه شبه التام من جنوب لبنان دون قيد أو شرط عام 2000 بعد مقاومة شرسة وذكية قادها حزب الله، ثم ألحِقت بالعدو على يد تلك المقاومة هزيمة عسكرية تاريخية في حرب تموز 2006، وها هي تلك المقاومة اليوم في أكتوبر 2024 أثناء كتابة هذه السطور تواجه أكثر حروب العدو توحشاً، وأبشعها آلاماً وجراحاً، ولا تزال في الميدان تكبده المئات من القتلى والجرحى، وأصبحت بعد الكلاشينكوف والـ«آر بي جي» في خلدة في الزمان العابر، تُمطر قوات العدو الآن بصواريخ الـ«كورنيت» والألماس الموجهة، وتنقل الرعب إلى عمق الداخل المحتل بصواريخها الباليستية وبالمسيرات الانقضاضية.

# بيروت # لبنان # حرب لبنان # تاريخ # إسرائيل # حزب الله # فلسطين

تل أبيب: قصة الحي الشعبي الذي أصبح قلب إسرائيل
هدد بقاء الإمبراطورية: التعصب الرياضي في القسطنطينية
الشابات: كيف نفهم حياة الحريديم في الأراضي المحتلة؟

معرفة